التائه

9:20 ص اريج الامل 0 التعليقات



الطريق المتعرجة أمامه ترسم متاهة مليئة بالتقاطعات المربكة, وبرغم هذا فهو يسير بسيارته الصغيرة مستعينا بحدسه, حتى أرخى الليل عباءته السوداء على المدى.. وبدأت تختفي ملامح الطبيعة التي سايرته على جانبي الطريق منذ انطلاق رحلته قبل ساعات..أخرج خارطة ووضعها بقربه وهو يتمتم, لماذا تأتي الوظيفة التي انتظرتها طويلاً في أقصى الشمال بينما أنا وعائلتي في الجنوب, من المسئول عن هذا ؟!
 بسط الخارطة التي تحتوي على اغلب مدن وقرى البلاد, كي يتأكد أنه يسير على الدرب الصحيح.. فهذه أول مره يسافر عبر هذا الطريق.. كان يفترض أن يسافر معه أحد زملائه, إلا أنه كُلف بعمل من قبل الشركة التي يعملان فيها..
نظر ملياً إلى الخارطة المنبسطة على الكرسي الخالي الذي يليه .. وجد أن هناك قرية قريبة كان أباه دائما يحكي عنها عند عودته من أسفاره..جفت عيناه وهو يلاحق اللوحات الإرشادية على جانبي الطريق لعله يجد اسم هذه القرية ولكن دون جدوى..
وصل إلى إحدى المحطات المنتشرة في الطريق, اقترب من العامل الذي يملأ خزان السيارة, بعد أن أحضر له بعض العصائر والشطائر وعبوات مياه معدنية من متجر التموين الموجود في المحطة..سأله هل تعرف قرية (س)؟ رد عامل المحطة نعم أعرفها.. وأخذ يشرح له الطريق..
جلس في مقعده يلتهم إحدى الشطائر, ثم أدار محرك السيارة في الاتجاه الذي أشار إليه عامل المحطة...مرت ساعة وهو ينساب بسيارته في حضن الليل, تراقصت أمامه صور كثيرة للماضي والحاضر..فتح مذياع السيارة لينكسر الصمت المحيط به, بأول آية من القرآن الكريم (( الله نور السماوات والأرض))تنبه أن الطريق التي كان يمر بها خالية من أي حياة..كان سيتوقف لولا أنه رأى أنوار محطة وقود.. فاقترب منها وسأل العامل الموجود فيها عن القرية (س) قال له الرجل: لا يوجد في الطريق الذي تسلكه إلا حدود لبلد آخر,, أنصحك بالعودة من حيث أتيت...أعاده الطريق إلى صاحب المحطة الأولى الذي دلَّه بعد ذلك أكثر من مرة على طرق وهمية, وفي كل مرة كان الشاب التائه يعود إلى نفس المحطة يملأ خزان السيارة أو يشتري شيئاً حتى ملّ من تكرار العملية تلك و قرر الاعتماد على الله وعلى نفسه, وأخرج من جيبه بوصلة القبلة التي كان يستخدمها في الصلاة عندما لا يكون متأكد من اتجاه القبلة.. قال في نفسه: البوصله تشير الى الشمال وحسب قواعد الاتجاهات الأربعة اننا إذا عرفنا اتجاه الشمال, فالشرق أكيد على يميننا.. لهذا فإن الطريق على يمين المحطة هو الطريق الصحيح..قرأ الآية الكريمة (( عسى ربي أن يهديني سواء السبيل)) وكرر الآية عدة مرات......طريق طويل ممتد أمامه لا شيء يوحي بأنه يسير في الطريق الصحيح...بدأ الشك والملل يتسلل إلى نفسه, أقفل المذياع.. فرك عينيه.. تناول جرعة من علبة العصير..بدأ شيئاً يتلاشى في نفسه, هل هو الأمل في ايجاد الطريق الصحيح؟ أم أنها ثقته بنفسه بدأت تنهار أمام هذا الظلام السرمدي المخيف, الذي يحيط به والتي لا تستطيع أعمدة النور المتفرقة هنا وهناك أن تضيئه أو تحد من سواده..بقي متأرجحا بين متاهات الشد والجذب حتى خرج من طوفان ظنونه عندما لمح شيئا يتحرك من بعيد.. وشيئا فشيئا بدأت ملامحه تتضح, إنه رجل يلوح بكلتا يديه..ماذا يفعل هذا الرجل في هذا المكان؟ سأل نفسه قبل أن يقترب أكثر ويوقف السيارة...أقترب منه رجل ستيني, يظهر على وجهه الوقار والثقة بالنفس... هيئته لا تدل على هيئة مسافر.. حدّث الشاب بوقار وقال له وهو يشير بيده إلى خلف التلّة التي وراءه لقد كنت في زيارة لأحد أرحامي, هل تأخذني معك إلى القرية (س)؟
اختلط اليأس والأمل في صوت الشاب التائه وقال أنا يا سيدي تائه, وأبحث عن نفس القرية التي تتحدث عنها..فتح الرجل الستيني باب السيارة بثقة وقال وهو يجلس على الكرسي: لا تخف فأنا أعرف الطريق.....أشار الرجل بيده إلى الطريق, فانطلقت السيارة على الطريق المرسوم بالأسفلت تقتحم سراديب الظلام الممتدة إلى مالا نهاية...وبدأ الشاب يسرد حكاية ضياعه بين المحطات وأخذ الرجل الستيني يبتسم ثم قال: لقد خدعك الرجل في المحطة الأولى رسم لك طرق وهمية فهو مستفيد من عودتك كل مرة لتشتري شيئا أو تملأ خزان السيارة ....وقد صدقك الآخرون...أنقضت بقية ساعات الليل والرجل يسرد الحكايات والطرف ليخفف من طول الطريق ووحشته, هدأت نفس الشاب.. أحس أنه قرب أبيه, والسيارة امتلأت بالأنس وسادها جو الطمأنينة...لاحت من بعيد قرية تتراقص أضوائها كحبات عقد...أشار الرجل بيده إلى القرية وقال للشاب: هذه هي قرية (س), إذا دخلتها فاتجه شرقاً.. لا تنسى أن تتجه شرقاً فقد أوشك النور على الظهور.. لا تترك الاتجاهات تغريك أو تثنيك عن مسارك..سكت الرجل الستيني, بينما انسل أول خيط للنور من بين فلول الظلام.. انتبه الشاب الذي كانت عيناه على الطريق أن الرجل لم يعد يتحدث.. ابتسم الشاب وقال: هل نمت؟ ثم نظر إلى الكرسي الفارغ الذي كان يجلس عليه الرجل الذي تبخر من السيارة وكأنه لم يكن!.

0 التعليقات: